التسميات

الجمعة، 28 أبريل 2017

الالتفات وأنواعه دراسة تطبيقية في سورة الفاتحة

 الالتفات وأنواعه دراسة 

تطبيقية في سورة الفاتحة


الفصل الأوَّل: في بيان الالتفات
تشمل على تسعة مطالب
المطلب الأوَّل: في المقدمة
المطلب الثَّاني: الالتفات لغةً واصطلاحًا
المطلب الثَّالث: في بيان إطلاق الالتفات على الله –عزَّ وجلَّ-
المطلب الرَّابع: الالتفات من نظرة البديعين
المطلب الخامس: في بيان أنواع الالتفات
المطلب السَّادس: في بيان تفرُّعات الالتفات
المطلب السَّابع: في بيان فوائد الالتفات
المطلب الثَّامن: في بيان مذهب الجمهور والسَّكاكيِّ في تحديد الالتفات


المطلب التَّاسع: في بيان شروط الالتفات
الفصل الأوَّل: في بيان الالتفات
المطلب الأوَّل: في المقدمة:
إنَّ الالتفات من أجل علوم البلاغة، وهو أمير جنودها، والواسطة في قلائدها وعقودها، وسمِّي بذلك أخذًا له من التفات الإنسان يمينًا وشمالًا، فتارةً يقبل بوجهه، وتارةً كذا، وتارة كذا.
فهكذا حال هذا النَّوع من علم المعاني؛ فإنَّه في الكلام ينتقل من صيغة إلى صيغة، ومن خطاب إلى غيبة، ومن غيبة إلى خطاب، إلى غير ذلك من أنواع الالتفات، كما سنوضحه.
ويسمَّى أيضًا "شجاعة العربيَّة"، وإنَّما سمِّي بذلك؛ لأنَّ الشَّجاعة هي الإقدام، وذاك أنَّ الرَّجل الشَّجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورد ما لا يتورده سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام، فإنَّ اللُّغة العربيَّة تختصُّ به دون غيرها من اللُّغات.[1]
فإنَّك ترى الكلام بهذا الفنِّ البلاغيِّ يلتفت ههنا وههنا، وكأنَّ الأسلوب حيٌّ يتحرَّك ويتلفت.
المطلب الثَّاني: الالتفات لغةً واصطلاحًا:
لفت -اللَّام والفاء والتَّاء-: كلمةٌ واحدة، تدلُّ على اللَّيِّ، وصرف الشَّيء عن جهته المستقيمة، منه: لَفَتُّ الشَّيءَ: لوَيْتُه. ولفَتُّ فلاناً عن رأيه: صرفْتُه. والألْفَتُ: الرَّجل الأعسَر. وهو قياس الباب: واللَّفِيتة: الغَليظة من العَصائد، لأنَّها تُلفَت، أي تُلْوى. وامرأةٌ لَفوت: لها زوجٌ، ولها ولدٌ من غيره، فهي تلفتُ إلى ولدِها. ومنه: الالتفات، وهو أن تَعدِل بوجهك.[2]
والالتفات في اصطلاح البديعين: وهو انصراف المتكلِّم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة، وما يشبه ذلك من الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر. قال الله -جلَّ ثناءه- ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾.[يونس: 22].[3]
والتَّلوين تقديم الألوان من الطَّعام للتفكه والتَّلذذ، ويطلق على تغيير أسلوب الكلام إلى أسلوب آخر، وهو أعم من "الالتفات".[4]
يزعمون العرب أنَّ من خرج في سفر، فالتفت وراءه، لم يتم سفره، فإن التفت تطيروا له من ذلك، سوى العاشق، فإنَّهم كانوا يتفاءلون له بذلك؛ ليرجع إلى من خلف.[5]
المطلب الثَّالث: في بيان إطلاق الالتفات على الله –عزَّ وجلَّ-:
إنَّ الله –سبحانه- لا يوصف إلَّا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله -صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم-، ومنه لفظ الالتفات، فلا يُطلق الالتفات على الله تعالى إلاَّ حيث ورد النَّص، ولا يعلم وروده، فيترك. والله تعالى أعلم.
المطلب الرَّابع: الالتفات من نظرة البديعين:
قال السَّكاكيُّ: "هذا غير مختص بالمسند إليه، ولا بهذا القدر، بل التَّكلُّم والخطاب والغيبة مطلقًا، ينقل كل واحد منها إلى الآخر، ويسمَّى هذا النَّقل التفاتًا عند علماء المعاني، كقول ربيعة بن مقروم:
بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ... وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا
فالتفت كما ترى، حيث لم يقل "وأخلفتني".
ويقول التَّفتازانيُّ: "أخذوا من التفات الإنسان عن يمينه إلى شماله، أو بالعكس، كقوله أي قول امرئ القيس:
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ
خطاب لنفسه التفاتا، ومقتضى الظَّاهر ليلى.[6]
وقال في "المفتاح" بعد أن ذكر أنَّ العرب يستكثرون من الالتفات: "أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون، وطعم وطعم، ولا يحسنون قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب".
وقال الثَّعالبيُّ: هو أن تذكر الشَّيء وتتمَّ معنى الكلام به، ثم تَعودَ لذكْره كأنَّك تلتَفِتُ إليه، كما قال أبو الشَّغْب:
فارَقْتُ "شَغْبا" وقد قُوِّسْتُ من كِبَرٍ ... لَبئْسَتِ الخَلَّتانِ الثُّكلُ والكِبَرُ
فذكر مصيبته بابنه مع تقوُّسه من الكبر، ثمَّ التفتَ إلى معنى كلامه فقال: "لبئست الخلَّتان".[7]
قال السيوطيُّ في "المزهر": "ومن سنن العرب أن تخاطب الشَّاهدَ، ثُمَّ تحوَّل الخطاب إلى الغائب، أو تخاطب الغائبَ، ثُمَّ تحوَّله إلى الشَّاهد، وهو الالتفاتُ، وأن تخاطبَ المخاطب ثُمَّ يرجع الخطاب لغيره نحو: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ﴾". [القصص: 50].[8]
المطلب الخامس: في بيان أنواع الالتفات:
قد جعله ابن المعتز نوعين:
النَّوع الأوَّل: وهو انصراف المتكلِّم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة، وما يشبه ذلك، قال الله -جلَّ ثناءه-: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ﴾.[يونس: 22].
النَّوع الآخر: الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر.[9]
وعرَّف أبو الهلال العسكريُّ هذا النَّوع الأخير: "أن يفرغ المتكلِّم من المعنى، فإذا ظننت أنَّه يريد أن يجاوزه يلتفت إليه، فيذكره بغير ما تقدم ذكره به".
قال محمَّد بن يحيى الصَّولي قال الأصمعيُّ: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: لا، فما هي؟
قال:
أتنسى إذ تودّعُنا سليمَى ... بعود بشامةٍ سقِى البشام
ألا تراه مقبلاً على شعره! ثمَّ التفت إلى البشام فدعا له.
وقوله:
طربَ الحمام بذي الأرك فشاقني ... لا زلتَ في عللٍ وأيكٍ ناضرِ
فالتفت إلى الحمام فدعا له.[10]
يقول الدُّكتور شوقي ضيف: "ولعلَّنا لا نبالغ إذا قلنا: إنَّ الأصمعيَّ أوَّل من اقترح للالتفات اسمه الاصطلاحي في البلاغة".[11]
المطلب السَّادس: في بيان تفرُّعات الالتفات:
يتفرَّع الالتفات على ست صُوَر:
الصُّورة الأولى: الانتقال من التكلُّم إلى الخطاب، وكذا الابتداء بالخطاب، مع أنَّ مقتضى الظَّاهر يستدعي التَّكلُّم أو الْغَيْبَة، نحو: ﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ دون "أرجع".
الصُّورة الثَّانية: الانتقال من التَّكلُّم إلى الغيبة، وكذا الابتداء بالْغَيْبة مع أنَّ مقتضى الظَّاهر يستدعي التكلُّم أو الخطاب، نحو: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ دون "لنا".
الصورة الثَّالثة: الانتقال من الخطاب إلى التَّكلُّم، وكذا الابتداءُ بالتَّكلُّم مع أنَّ مقتضى الظَّاهر يستدعي الخطاب أو الْغَيْبَة، نحو قول علقمة بن عبدة العجلي:
طَحَا بكَ قَلبٌ في الحِسان طروبُ ... بُعيْد الشَّبابِ عصرَ حانَ مشيبُ
تُكلِّفُني ليلَى وَقد شَطَّ ولْيُها ... وعادتْ عوادٍ بينَنا وخُطُوبُ
وكان مقتضى الظَّاهر يكلفك أي: القلب.
الصُّورة الرَّابعة: الانتقال من الخطاب إلى الْغَيْبة، نحو: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِيْ الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ﴾ دون "بكم".
الصُّورة الخامسة: الانتقال من الْغَيْبة إلى التكلّم، نحو: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ ﴾ دون "فساقه".
الصُّورة السادسة: الانتقال من الْغَيْبة إلى الخطاب، نحو: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ دون "إيَّاه".[12]
المطلب السَّابع: في بيان فوائد الالتفات:
للالتفات فوائد عديدة، ذكرها البلاغيون في كتبهم، على سبيل المثال:
- إنَّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السَّامع، وأكثر إيقاظًا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد.[13]
- فنيَّة التنويع في العبارة المثيرة لانْتِباه المتلَقِّي، والباعثة لنشاطه في استقبال ما يُوَجَّه له، والإصغاء إليه.
- الاقتصار والإيجاز في التعبير.
- الإِعراض عن المخاطبين؛ لأنَّهم عن البيانات معرضون، أو مُدْبرون وغير مكترثين.
- إفادة معنىً تتضمَّنُه العبار الَّتي حصل الالتفات إليها، وهذا المعنى لا يستفادُ إذا جرى القول وفق مقتضى الظَّاهر.
- ما يُسْتفاد من معنىً بالالتفات إنَّما يستفاد إلماحًا بطريقٍ غير مباشر، ومعلُومٌ أنَّ الطُّرُقَ غير المباشرة تكون أكثر تأثيراً من الطُّرق المباشرة حينما تقتضي أحوال المتلقِّين ذلك.
- إشعارُ مختلف زُمر المقصودين بالكلام؛ بأنَّهم محلُّ اهتمام المتكلِّم، ولو لم يكونوا من الزُّمْرَة المتحدِّث عنها أوَّلاً.
ويظهر هذا في النُّصوص الدينيَّة الموجَّهة لجميع النَّاس، وفي خُطَب الملوك، والرُّؤساء، والوَّعاظ، وأشباههم.[14]
- الإِشعارُ بالعتاب أو الإِعراض عمَّنْ يليقُ به أن يُكرَّمَ بالخطاب بحسب مقتضى الظَّاهر، ولكن جاء الكلام على خلاف ذلك؛ لأنَّه أعرض أو تولَّى في مقامٍ كان ينبغي له في أَنْ لا يُعْرِض ِأو أن لا يتولَّى.[15]
المطلب الثَّامن: في بيان مذهب الجمهور والسَّكاكيِّ في تحديد الالتفات:
أمَّا الجمهور فيقولون في تحديده: إنَّه التَّعبير عن معنى بطريق من الطُّرق الثَّلاثة بعد التَّعبير عنه بطريق آخر منها.
والطُّرق الثَّلاثة هي:
-        التَّكلُّم.
-        والخطاب.
-        والغيبة.
وواضح من قولهم: بعد التَّعبير عنه بطريق آخر منها؛ أنَّه لا يكون في أوَّل الكلام سواء وافق مقتضى الظَّاهر أو خالفه، فقول القائل، وهو يعني نفسه: ويحك، ما فعلت وما صنعت ليس التفاتا عند الجمهور، وإن كان مقتضى الظَّاهر أن يقول: ويحي ما فعلت وما صنعت.
ومثل هذا كثير في الشِّعر، وخاصَّة في مطالع القصائد، وهذا يعد التفاتًا عند السَّكاكيِّ؛ لأنَّه يعني به أن يعبِّر بطريق من هذه الطُّرق عمَّا عبَّر عنه بغيره، أو كان مقتضى الظَّاهر أن يعبر عنه بغيره، وهذا القسم الأخير هو ما خالف فيه الجمهور، ويشمل ما ذكرناه من قول القائل: ويحك ما فعلت؛ لأنَّه عبر عن المتكلِّم بطريق المخاطب، وكان مقتضى الظَّاهر أن يعبر عنه بطريق التَّكلُّم، ولهذا قالوا: إنَّ كلَّ التفات عند السَّكاكيِّ التفات عند الجمهور من غير عكس.
المطلب التَّاسع: في بيان شروط الالتفات:
قالوا: يشترط في الالتفات أن يكون:
- الضَّمير المتنقل إليه عائداً في نفس الأمر إلى المنتقل عنه.
- يقربُ من الالتفات نقل الكلام من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع إلى الآخر.
- يقربُ من الالتفات التنقُّل بين الماضي والمضارع والأمر.[16]
۞۞۞
الفصل الثَّاني: في بيان سورة الفاتحة
تشمل على خمسة مطالب:
المطلب الأوَّل: في بيان موضع نزولها:
المطلب الثاني: في بيان آياتها
المطلب الثَّالث: في بيان ربط آياتها
المطلب الرَّابع: في بيان أسماءها
المطلب الخامس: في بيان فضائلها

الفصل الثَّاني: في بيان سورة الفاتحة
المطلب الأوَّل: في بيان موضع نزولها:
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها نزلت بمكَّة، نُقل عن عليٍّ وابن عبَّاسٍ وأبي هريرة والأكثرين.
والقول الثَّانيُّ في موضع نزول الفاتحة: أنها أُنزلت بالمدينة. قاله جماعة، منهم: مجاهد، روى منصور عن مجاهد قال: "إنَّ إبليس رنَّ أربعَ رنَّاتٍ: حين لُعِنَ، وحين أُهبط من الجنَّة، وحين بُعث النبيُّ -صلى الله تعالى عليه وسلم-، وحين أُنزلت فاتحة الكتابِ، وأُنزلت بالمدينة.
والقول الثَّالث: أنَّها أُنزلت مرَّةً بمكَّة، ومرَّةً بالمدينة، فهي مكِّيَّةٌ مدنيَّةٌ.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي –رحمه الله تعالى-: "والصَّحيح أنَّها أُنزلت بمكَّة، فإنَّ "سورة الحِجْر" مكِّيَّةٌ بالاتِّفاق، وقد أنزل الله فيها: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87], وقد فسَّرها النبيُّ -صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم- بالفاتحة، فعُلم أنَّ نزولهَا متقدمٌ على نزول "الحِجْر"، وأيضًا فإنَّ الصَّلاةَ فُرضت بمكَّة، ولم يُنقل أنَّ النبيَّ -صلى الله تعالى عليه وسلم- وأصحابَه صلَّوا صلاةً بغير فاتحة الكتاب أصلاً، فدلَّ على أنَّ نزولهَا كان بمكَّةَ.[17]
المطلب الثاني: في بيان آياتها:
تشمل على سبعُ آياتٍ، كما دلَّ عليه قولُه تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ﴾.[18]
وأورد الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- فيها قولان شاذَّان:
أحدُهما: أنَّها ستُّ آياتٍ، حُكي عن حسين الجُعْفِيِّ.
والثَّاني: أنَّها ثمانُ آياتٍ، وأنَّ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ آيةٌ، نُقل عن عمرو بن عبيد، ولا يعبأُ به.
وأمَّا كلماتُها: فهي خمسٌ وعشرون كلمةً.
وأمَّا حروفُها: فمئةٌ وثلاثة عشر حرفًا.[19]
المطلب الثَّالث: في بيان ربط آياتها:
إنَّ هذه السُّورة مختصَّةٌ بمُناجاةِ الرَّبِّ تعالى، ولهذا اختصَّت الصَّلاةُ بها، فإنَّ المصلِّي يُناجي رَبَّه، وإنَّما يُناجي العبدُ رَبَّه بأفضلِ الكلامِ وأشرفِه، وهي مقسومةٌ بينَ العبدِ والرَّبِ نصفين، فنصفُها الأوَّل ثناءٌ للرَّبِّ -عزَّ وجلَّ-، والرَّبُّ تعالى يَسمَعُ مُنَاجَاة العَبدِ له، ويردُّ على المناجِي جوابَه، ويسمعُ دعاءَ العبدِ بعدَ الثناءِ ويُجيْبُه إلى سؤالِه، وهذه الخصوصيّةُ ليسَتْ لغيرِها من السُّوَرِ، ولم يثبت مثلُ ذلك في شيءٍ من القرآن إلَّا في خاتمة "سُورة البقرة"، فإنَّها أيضًا من الكنز الَّذي تحت العَرش، ويُجابُ الدُّعاءُ بها كدُّعاءِ الفاتحة، غيرَ أنَّ الفاتحةَ تمتازُ عليها مِن وجهين:
أحدُهما: الثَّناءُ أوَّلها وتلك لا ثناءَ فيها، وإنَّما فيها أخبارٌ عن الإيمانِ والفاتحة تتضمَّنُه.
والثَّاني: أنَّ دُعاءَ الفاتحة أفضل، وهو: هداية الصِّراط المستقيم الَّذي لا نجاة بدُونِهِ، وتلك فيها الدُّعاءُ بما هُوَ مِن لواحِقِ ذلك وتتماتِه، ولا يُمكن حُصُولُهُ بدُونِ هِدَايةِ الصِّراطِ المستقيم.[20]
المطلب الرَّابع: في بيان أسماءها:
قال العلماء -رضي الله تعالى عنهم-: "كثرة الأسماء دالة على عظم المسمَّى ورفعته، وذلك للعناية به وبشأنه، ولذلك ترى المسمِّيات في كلام العرب أكثرها محاولة واعتناء".[21]
نكتفي على سرد من أسماء ما ورد في أحاديث صحيحة، فهي كالآتي:
السَّبع المثاني: قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87]. وفي "سنن أبي داود" من حديث أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه-: (( ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أمُّ القرآن، وأمُّ الكتاب، والسَّبعُ المثاني )).[22]
فاتحة الكتاب: عن عُبادة بنِ الصَّامِت –رضي الله تعالى عنه-: أنَّ النبيَّ -صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم- قال: (( لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ )).[23] وإنَّما سُمِّيت "فاتحة الكتاب" لافتتاح سُور القرآن بها كتابةً، وقراءةً في الصَّلاة.
الصَّلاة: عن أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِيْ وَبَيْنَ عَبْدِيْ نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِيْ مَا سَأَلَ )).[24] إنَّما سُمِّيت "صلاةً" لأنَّ الصلاةَ لا تخلوُ عنها.
أمُّ القرآن: عن عائشة –رضي الله تعالى عنها- قالت: - سمعت رسول الله -صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم- يقول: (( لا صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج )).[25]
القرآن العظيم: وفي "صحيح البخاريِّ" من حديث أبي سعيد بن المعلَّى (( ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِيْ وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِى أُوتِيتُهُ )).[26]
رقية الحقِّ: في "صحيح البخاريِّ" عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال النَّبيُّ -صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم-: (( وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ )).[27]
المطلب الخامس: في بيان فضائلها:
أوَّلًا: عن أبيِّ بن كعب قال: قال النَّبيُّ -صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم-: (( مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيْ التَّوْرَاةِ، وَلاَ فِيْ الإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِيْ، وَهِيَ مَقْسُومَةٌ بَيْنِيْ وَبَيْنَ عَبْدِيْ وَلِعَبْدِيْ مَا سَأَلَ )).[28]
ثانيًا: عن عبدِ الله بنِ جابرٍ –رضي الله تعالى عنه- قال: قال لي رسول الله -صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم-: (( ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بخير سورة في القرآن؟))
قلت: بلى يا رسول الله.
قال: (( إقرأ ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ حتَّى تختمها )).[29]
ثالثًا: عن عبد الملك بن عمير قال: "قال رسول الله -صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم- في فاتحة الكتاب شفاء من كلِّ داء".[30]
۞۞۞
الفصل الثَّالث: الالتفات في "سورة الفاتحة"
دراسة تطبيقية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ هذه الآيات تدلُّ على الغيبة، ثُمَّ انتقل إلى الخطاب المباشر بقوله: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، ولو نظر إلى الآيات السَّابقة يتَّضح أنَّ مقتضى الظَّاهر أن يقول "إيَّاه نعبد، وإيَّاه نستعين".
قال الشَّيخ محمَّد الطَّاهر بن عاشور في سرِّ هذا الالتفات: "هنا التفات بديع؛ فإنَّ الحامد لَمَّا حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصِّفات بلغت به الفكرة منتهاها، فتخيَّل نفسه في حضرة الرُّبوبيَّة، فخاطب ربَّه بالإقبال، ومِمَّا يزيد الالتفات وقعًا في الآية أنَّه تخلَّص من الثَّناء إلى الدُّعاء، ولا شكَّ أنَّ الدُّعاء يقتضي الخطاب، فكان قوله ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ تخلُّصًا يجيء بعده ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ ﴾.[31]
ويقول الدُّكتور فاضل صالح السَّامرائيُّ: "وعندما قال –سبحانه- ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فهو حاضر دائمًا، فنودي بنداء الحاضر المخاطب.
الكلام من أوَّل الفاتحة إلى ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ كله ثناء على الله تعالى، والثَّناء يكون في الحضور والغيبة، والثَّناء في الغيبة أصدق وأولى.
أمَّا ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فهو دعاء، والدُّعاء في الحضور أولى وأجدى؛ إذن الثَّناء في الغيبة أولى، والدُّعاء في الحضور أولى، والعبادة تؤدي في الحاضر وهي أولى".[32]
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ عدل عن الغيبة إلى الخطاب للالتفات فقال: اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال، قال الرَّاغب: "هو الطَّاعة في الدُّنيا، ودخول الجنَّة في الآخرة".[33]
﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ هم الملائكة أو الأنبياء، أو المؤمنون بالكتب السَّالفة، أو المسلمون، أو النَّبي ومن معه.[34]
جاء الكلام على طريقة الخطاب، ثُمَّ عدل عن الخطاب إلى الغيبة، فقال: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ بيَّنه أنَّ نعمته مختصَّة بالأوَّلين، الَّذين سلكوا الصَّراط المستقيم، وكان الظَّاهر أن يُقال: "غير الذينَ غَضِبْتَ عليهم" فَخُولِفَ هذا الظَّاهر.
وقد وقف ابن الأثير مع هذه الآية الكريمة فقال: "ولم يقل غير الَّذين غضبت عليهم؛ لأنَّ اسم المفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول، فاعتبر ذلك عطفًا على الأوَّل؛ لأنَّ الأوَّل موضع التَّقرُّب من الله بذكر نعمه, فلمَّا صار إلى ذكر الغضب جاء باللَّفظ منحرفًا عن ذكر الغاضب, فأسند النِّعمة إليه لفظًا, وزَوَى عنه لفظ الغضب تحننًا ولطفًا".[35]
۞۞۞






[1] المثل السَّائر في أدب الكاتب والشَّاعر لابن الأثير، النوع الرابع: في الالتفات، تح: محمَّد محيي الدين عبدالحميد، النَّاشر: المكتبة العصريَّة- بيروت، سنة النَّشر: 1995، عدد الأجزاء: 2، والطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: 2/72.
[2] معجم مقاييس اللُّغة لابن فارِس: 5/208، تح: عبد السَّلام محمَّد هارون، النَّاشر: اتَّحاد الكتاب العرب، 1423 هـ = 2002م، عدد الأجزاء: 6.
[3] البديع لابن المعتز: ص 25. لم يقل: "وجرين بكم" فيها التفات؛ لأنَّهم عندما ركبوا في البحر، وجرت بهم الفلك أصبحوا غائبين، وليسوا مخاطبين.
[4] المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وآخرون: 2/847، دار النَّشر: دار الدَّعوة، عدد الأجزاء: 2.
[5] نشوة الطَّرب في تاريخ جاهلية العرب:
[6] مختصر المعاني للتَّفتازانيِّ: ص 78، النَّاشر: دار الفكر، ط 1، سنة النَّشر: 1411هـ.
[7] فقه اللُّغة للثَّعالبي: 1/1395،1396، كتاب في سرِّ العربيَّة، فصل في الإلتفات.
[8] المزهر في علوم اللُّغة وأنواعها للسُّيوطيِّ: 1/264، تح: فؤاد علي منصور، النَّاشر: دار الكتب العلميَّة– بيروت، ط 1، سنة النَّشر: 1998، عدد الأجزاء: 2.
[9] ينظر: البديع لابن المعتز.
[10] كتاب الصِّناعتين لأبي هلال العسكري: ص 392، الفصل العشرون في الالتفات، تح: علي محمَّد البجاوي، ومحمَّد أبو الفضل إبراهيم، النَّاشر: المكتبة العصريَّة، بيروت، سنة النَّشر: 1406هـ- 1986م، عدد الأجزاء: 1.
[11] البلاغة تطوُّر وتاريخ لدكتور شوقي ضيف: ص 30.
[12] ينظر: البلاغة العربيَّة أسسها وعلومها وفنونها لعبد الرَّحمن حسن الحبنكة الميداني: 1/380، علوم البلاغة "البيان، المعاني، البديع" للمراغي، أحمد مصطفى.
[13] الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني: 2/105، تح: محمَّد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل – بيروت، ط 3.
[14] البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها لعبد الرَّحمن حسن الحبنكة الميداني: ص 367،368.
[15] المصدر نفسه: ص 378.
[16] ينظر: المصدر نفسه: 1/379.
[17] تفسير الفاتحة لابن رجب الحنبلي:
[18] الحجر:87.
[19] تفسير الفاتحة لابن رجب الحنبلي:
[20] تفسير الفاتحة لابن رجب الحنبلي:
[21] سبل الهدى والرِّشاد للشَّاميِّ: 1/400، جماع أبواب أسمائه -صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم- وكناه، الباب الأوَّل في فوائد، النَّاشر: دار الكتب العلميَّة، بيروت، لبنان، ط 1، سنة النَّشر: 1414 هـ - 1993م، عدد الأجزاء: 12.
[22] سنن أبي داود: 1/461، كتاب الوتر، باب فاتحة الكتاب، رقم الحديث: 1457، تح: محمَّد محيي الدِّين عبد الحميد، النَّاشر: دار الفكر، عدد الأجزاء: 4، سنن التِّرمذيِّ: 5/297، تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، رقم الحديث: 3124، تح: أحمد محمَّد شاكر وآخرون، النَّاشر: دار إحياء التُّراث العربي – بيروت، عدد الأجزاء: 5.
[23] متَّفق عليه، صحيح البخاريِّ: 1/ 263، كتاب صفة الصَّلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصَّلوات كلها في الحضر والسَّفر، رقم الحديث: 723، تح: د. مصطفى ديب البغا، النَّاشر: دار ابن كثير، اليمامة– بيروت، ط 3، سنة النَّشر: 1407 – 1987، عدد الأجزاء: 6، وصحيح مسلم: 1/295، كتاب الصَّلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كلِّ ركعة، رقم الحديث: 394، تح: محمَّد فؤاد عبد الباقي، النَّاشر: دار إحياء التُّراث العربي– بيروت، عدد الأجزاء: 5.
[24] صحيح مسلم: كتاب الصَّلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كلِّ ركعة.
[25] سنن ابن ماجه: 1/274، كتاب إقامة الصَّلاة والسُّنَّة فيها، باب القراءة خلف الإمام، رقم الحديث: 840، تح: محمَّد فؤاد عبد الباقي، النَّاشر: دار الفكر– بيروت، عدد الأجزاء: 2.
[26] صحيح البخاريِّ: 4/1623، كتاب التَّفسير، باب ماجاء في فاتحة الكتاب، رقم الحديث: 4204.
[27] صحيح البخاريِّ: 2/795، كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرُّقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، رقم الحديث: 2156.
[28] سنن التِّرمذيِّ: 5/ 297، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، رقم الحديث: 3125، مسند أحمد: 5/114، رقم الحديث: 21132.
[29] مسند أحمد: 4/177، رقم الحديث: 17633.
[30] سنن الدَّارميِّ: 2/538، رقم الحديث: 3370، شعب الإيمان للبيهقيِّ: 2/450، التَّاسع عشر من شعب الإيمان هو باب في تعظيم القرآن، ذكر فاتحة الكتاب، رقم الحديث: 2154، تح: محمَّد السَّعيد بسيوني زغلول، النَّاشر: دار الكتب العلميَّة – بيروت، ط 1، سنة النَّشر: 1410، عدد الأجزاء: 7.
[31] تحرير المعنى السَّديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد لابن عاشور.
[32] لمسات بيانية في نصوص من التَّنزيل.
[33] تفسير الرَّاغب الأصفهانيِّ: ص 244،  د. هند بنت محمَّد بن زاهد سردار، النَّاشر: كليَّة الدعوة وأصول الدِّين، جامعة أم القرى، ط 1: سنة النَّشر: 1422 هـ - 2001 م.
[34] تفسير العز بن عبد السَّلام : 1/92، تح: الدُّكتور عبد الله بن إبراهيم الوهبي، دار ابن حزم، بيروت، ط 1، سنة النَّشر: 1416 هـ / 1996م، عدد الأجزاء: 3.
[35]  المثل السَّائر لابن الأثير: 2/5، تح: مجمَّد محي الدِّين عبد الحميد، النَّاشر: المكتبة العصريَّة، بيروت، لبنان، سنة النَّشر: 1995م.